مصر ومهزلة حجاج غزة
الرئيس المصري حسني مبارك ابدي انزعاجه من تركيز الفضائيات علي قضية الحجاج الفلسطينيين العائدين الي قطاع غزة، واعترف ان بلاده في حالة حرج كبير بسبب هذه القضية، ولكنه لم يقل ان ضعف نظامه امام الحكومتين الامريكية والاسرائيلية، وخضوعه الكامل لاملاءاتهما هو الذي يضعه، ومصر الدولة الاقليمية الاكبر، في هذا الوضع المحرج دون اي سبب او مبرر.
امتدحنا في هذا المكان موقف الحكومة المصرية في ممارسة سيادتها علي حدودها وسماحها لحجاج قطاع غزة بالمرور عبر معبر رفح، دون أخذ اذن من الاسرائيليين، وطالبنا بتضامن عربي معها في مواجهة حملة الابتزاز التي تتعرض لها، بسبب هذه المواقف الوطنية التي تجسد تطلعات الشعب المصري وكرامته وتراثه الوطني العريق، وتمثلت في استخدام اللوبي اليهودي للكونغرس ودفعه للتلويح باقتطاع مئة مليون دولار من المساعدات السنوية لها، ولكن النظام المصري اصر علي تخييب ظننا كعادته دائما، وبادر بسرعة قياسية للتراجع عن هذه المواقف، وبطريقة مخجلة، والاكثر من ذلك الدفاع عنها، والاستماتة في تبريرها.
هذا التراجع المؤسف جاء بعد الزيارة التي قام بها ايهود باراك وزير الدفاع الاسرائيلي الي شرم الشيخ ولقاءاته مع الرئيس مبارك، ونظيره المصري المشير طنطاوي، علاوة علي اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة، ولا نعرف ما هي التهديدات، او الاغراءات، التي لوح بها باراك ودفعت اركان النظام المصري لتغيير رأيهم مئة وثمانين درجة بشأن عودة هؤلاء الحجاج من حيث اتوا، ومطالبتهم بتوقيع تعهدات، وهم في عرض البحر، بالقبول بالعودة الي سجنهم في القطاع عبر المعابر الاسرائيلية.
الرئيس مبارك القي علينا محاضرة في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حول معبر رفح، والاتفاقات المتعلقة به، مثل ضرورة وجود ممثل للجنة الرباعية، وآخر عن السلطة الفلسطينية في رام الله، كشرط لاعادة تشغيله، ولكن الرئيس مبارك نسي، وهذه ليست المرة الاولي، انه عندما سمح لهؤلاء الحجاج بالمغادرة عبر المعبر نفسه الي الاماكن المقدسة في انتفاضة كرامة نادرة الحدوث، لم يكن اي من هؤلاء الممثلين متواجدين علي المعبر.
الارجح ان اسرائيل ابتزت النظام المصري بالايعاز لانصارها في الكونغرس باستخدام ورقة المساعدات للضغط علي الحكومة المصرية لبذل جهود اكبر لمكافحة ظاهرة الانفاق علي الحدود المصرية مع قطاع غزة، واستخدامها في تهريب اسلحة لحركات المقاومة، فقرر هذا النظام الرد علي هذا الابتزاز باستخدام ورقة الحجاج هذه، وعندما توصل الي اتفاق مع الحكومة الاسرائيلية عبر باراك، و تصافت القلوب، عادت حليمة الي عادتها القديمة وتم التراجع عن وقفة العز القصيرة جدا هذه، وبدأت عملية التنكيل بالحجاج والزج بهم في العراء، ومطالبتهم بالعودة الي اهلهم وذويهم عبر المعابر التي تسيطر عليها اسرائيل بالكامل.
الذريعة التي استخدمتها اسرائيل في معارضتها لعودة هؤلاء عبر معبر رفح، تتلخص في مزاعمها بان بعض هؤلاء خرجوا من اجل تلقي دورات تدريبية علي اعمال الارهاب ، ومن المؤسف ان الحكومة المصرية صدقت هذه المزاعم، دون ان تسأل نفسها كيف سيتدرب هؤلاء علي اعمال الارهاب وهم الذاهبون الي الحج، ولفترة زمنية لا تزيد عن عشرة ايام.
والسؤال الأهم هو، هل توجد معسكرات تدريب علي الارهاب في ادغال مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفي منحنيات جبل عرفات او وديان منطقة مني، علي حد علمنا ان المملكة العربية السعودية هي احدي اكثر دول العالم حماسة في مكافحة الارهاب ، وزجت بأكثر من عشرين الف شرطي ورجل امن لتأمين موسم الحج من اي اعمال عنف. ويبدو ان المسؤولين الاسرائيليين والذين اطلقوا هذه الذرائع، وسلم بها نظراؤهم المصريون، يتحدثون عن حج في تورا بورا، او منطقة وزيرستان الحدودية بين باكستان وافغانستان، وليس حجيجا الي مكة المكرمة الذي نعرفه.
اسرائيل تتعمد اهانة النظام المصري، وتدمير ما تبقي له من مصداقية، وبدلا من ان يتصدي هذا النظام لهذا الاذلال بما يتناسب مع حجم مصر، ومكانتها، وكرامة شعبها، وتضحياته المشرفة وإرثه الوطني والتاريخي، يستأسد علي حجاج فلسطينيين مرضي وطاعنين في السن، ويتعمد اذلالهم واهانتهم حتي يثبت للاسرائيليين والامريكان انه ينفذ مطالبهم واملاءاتهم علي الوجه الاكمل.
ماذا ستفعل اسرائيل وامريكا عقابا لمصر اذا ما سمحت لحجاج غزة بالعودة عبر معبر رفح، هل ستنفذ تهديداتها باقتطاع مئة مليون دولار من المساعدات، وهل ستنهار مصر اذا ما اقتطع هذا المبلغ؟
مصر لن تنهار، وهذا المبلغ لن يؤدي الي تجويع شعبها اذا ما توقف، فملياردير واحد من هؤلاء المنتفعين من النظام، والملتفين حوله، يستطيع ان يسدد هذا المبلغ الذي يعتبر فكة بالنسبة لشخص مثل ملك الحديد، احد ابرز اعمدة النظام والكثيرين من امثاله، واعفونا من ذكر الاسماء.
النظام المصري يملك اسلحة قوية يستطيع، لو استخدم بعضها، ان يركع اسرائيل وامريكا، خاصة ان سياسات الاخيرة الخارجية تنتقل من فشل الي آخر في العراق وافغانستان واخيرا في باكستان، وباتت بحاجة الي مصر اكثر من حاجة مصر اليها.
ماذا لو غضت الحكومة المصرية النظر عن هجرة الافارقة الي اسرائيل عبر سيناء، او لو ادارت ظهرها لعمليات تهريب الاسلحة الي المقاومة في قطاع غزة؟ ونحن هنا لا نتحدث عن فتح الحدود المصرية لملايين المتطوعين المصريين الذين يريدون الاستشهاد دفاعا عن كرامة الأمة والعقيدة علي ارض فلسطين المغتصبة.
النظام المصري يملك الكثير من اوراق القوة ضد اسرائيل وامريكا، ولكنه اختار المسكنة و التذلل والتخلي عن دوره القيادي في المنطقة، من اجل حفنة من الفضة الامريكية وهو وضع لا يستحقه الشعب المصري المشهود له بالوطنية وعزة النفس والتضحية من اجل كرامة بلاده وأمته، ومن المؤكد ان صبره ليس بلا حدود.
الخطر الذي لا يدركه مستشارو هذا النظام ان هذه السياسات التي تخدم الامن الاسرائيلي، ربما تؤدي الي نتائج عكسية علي الامن المصري نفسه، فأنفاق رفح هي طريق في اتجاهين، واذلال شعب والمشاركة في حصاره وتجويعه واذلاله بالطريقة التي نراها ربما تدفع بعض المتطرفين في اوساطه للتصرف بطريقة لا تتسم بالحكمة والعقل، وأحداث طابا وشرم الشيخ الاخيرة هي خير مثال علي النتائج التي ترتبت علي اذلال مواطني سيناء وتهميشهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة العاشرة.
عبد الباري عطوان
رئيس تحرير صحيفة القدس العربي
31/12/2007